لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
أخبار عربية

رائدة مرتين

تبدو فيروز وقد تقدمت إلى الواحدة والثمانين، رائدة للمرة الثانية للأغنية العربية الحديثة، لقد كانت بفضل الأخوين رحباني رائدة الأغنية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين.

لكن أغنيتها لم تكتهل معها. لقد بقيت كقصيدة حية تلعب في مخيلات وقلوب من نهم مخيلات وقلوب، بقيت وعداً بزمن من الشغف والحنين والذكرى واليوميات المفعمة، بقيت أغنية تعيد يوميات الحب والسفر والأرض، لقد أوجدت أغنية لا مقابل لها سوى الشعر والأدب، هكذا يمكن أن نضع الأغنية الفيروزية جنب التجديد الأدبي والجبراني بخاصة. اكتهلت فيروز ولم تسن أغنيتها لكنها في اكتهالها وجدت أيضاً الأغنية التي تضمن لها الريادة الثانية، وهذه المرة أيضاً بفضل رحباني آخر هو ابنها، الذي في عمله النقدي، مسرحاً كان أم موسيقى أم شعراً، استطاع أن ينقل الأغنية العربية إلى طور آخر وجديد، هذه الأغنية التي بعد أن استنفدت جيل الأوائل، احتاجت، والأغنية الرحبانية من ضمنها، إلى قفزة جديدة.. كانت الأغنية السياسية والأغنية التي تعتمد على الشعر من علائم هذه القفزة، كما كان من علائمها أيضاً الأغنية التي تتمرد على الأنوثة المفرطة وعلى شكاوى الحب وعذاباته، لكن النموذج الذي كان حقاً جديداً، وجدّته تنبع من أنه يتمرد على ثقافة طللية، النموذج الذي وجد أغنية هذه المرة في الشارع وفي اليوميات وفي ساحات المدن وأزقتها وفي لغة المدينة وبلاغتها، النموذج الذي ابتكره زياد الرحباني لوالدته، كان هو النموذج الطليعي بحق، وكان هنا التجديد الجذري في اللغة وفي الموضوعات وفي الموسيقى وفي الرؤى وفي التلقي. لقد صار في وسع المغنية الأم أن ترتد على نفسها وأن ترتد على أغنيتها وأن ترتد كما فعل زياد الرحباني في «شي فاشل» على عمارتها الخاصة، لم يعد الغناء ساحة للحلم، ولم يعد في الوقت ذاته دعوة للشغف وللعودة إلى الطبيعة ودعوة للغوص في الباطن والعثور على البذرة الشعرية والروحية في العاديات واليوميات، لم يعد الغناء لدى فيروز زياد ما كانه لدى فيروز عاصي ومنصور الرحباني. لقد عادت الأغنية إلى الحياة الجارية، عادت إلى العاديات والصور المتوفرة، عادت إلى عامية أصيلة مليئة بالمفارقات واللعب الصوتي، كما عادت الأغنية قرينة النثر لا الشعر، عادت تجفف الحلم وتجفف الشعر وتبني الأغنية من الألفاظ والصور المبذولة المتوافرة. لم تعد الأغنية مساراً إلى الروح وإلى الجنة، كانت الأرض وكان السوق وكانت المدينة هذه المرة هي الغرض. صار الشعر يتعلم من الصمت ومن الفراغ ومن الصدام كما يتعلم من الحكي، صارت الأغنية مشهداً صغيراً في مسرحية مكتومة، حواراً حقيقياً وربما مناوشة حقيقية بين اثنين أو بين جمع. لم تعد الأغنية موالاً يترنح ويجيش بل صارت كلاماً، جملاً قصيرة، حكياً كالحكي، همساً وأحياناً ثرثرة وأحياناً مشادة. فيروز في كهولتها عادت صبية الغناء وفتاته.
لا أعرف إلى متى سنبقى نتحدث عن فيروز. الأرجح أن فيروز بصوتها وغنائها هي شاعرة عصرنا. الأرجح أن غناء فيروز كان بادئ بدء نافذتنا على الحلم، حينما بدأ الحلم يخامر أيامنا، عندما صار لنا المقدرة على الحلم، عندما صار الخيال من مادة الحياة وأصبح واقعاً آخر، عندما غدا الشغف والتذكر والمواعيد واللقاءات قصة تروى، بل أصبحت الحياة ملأى بالوعود والانتظارات والما بعد، وجدت الأغنية الفيروزية وكأنما هي حاجة مزمنة. وجدت في مدى البحث عن إنسان جديد، وعن زمن آخر. لقد كان عصراً مثقلاً بالتطلعات، التطلعات التي دارت حول كل شيء وفي كل ميدان. كان العالم أمامنا وكان لدينا الشوق إلى الالتحاق به والدخول، كان المستقبل أمامنا وكنا نراقبه من بعيد ونشعر به يتنفس في وجوهنا. كنا موعودين كثيراً، موعودين بكل شيء، وحول كل شيء صار الوعد أغنية، كنا نخرج من هذا الواقع المريض ونتسلل إلى الحديقة، إلى جنينة الشغف، جنينة الأحلام، كنا عبر صوت فيروز ومع أغنيتها نتسلل إلى الجنة ونعود كما في عنوان رواية إيمان حميدان بغرامات منها. أغنية فيروز كانت هذه الغرامات. كان ثمة جيل جديد يطلع وأمنيات جديدة تنمو وأكثر من ذلك، كانت الحياة نصفها حلم، نصفها تشهٍ، نصفها خيال، نصفها بل أكثر من نصفها. أغنية فيروز كانت بالتأكيد تساوي هذا الوعد الذي منحناه لأنفسنا، واليوم أغنية فيروز تعدنا بأن الحياة باقية ولو بغرامات أقل من الجنة.

نقلاً عن السفير / بقلم عباس بيضون

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى