لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
مقالات

التأمين الصحي الحكومي.. تشوهات هيكلية وتردي ممنهج

بعد أن صرح وزير الصحة قبل عدة أيام بأن النية تتجه الآن إلى إلغاء الاعفاءات، عاد وبعد ساعات قليلة إلى نفي هذا الأمر، ولكنه اكد في نفس الوقت بأن الأزمة تتأتى من أن قيمة الاقتطاعات التأمينية لا تزيد عن 156 مليون دينار بينما تنفق الدولة لعلاج المؤمنين والحاصلين عن اعفاءات مبلغ يصل إلى 480 مليون دينار، وأكد بأن هذا الوضع يستوجب القيام بوقفة حكومية وإعادة النظر بموضوعة التأمين بمجمله، والسؤال: وفق أي مرجعية يجب أن تتم المراجعة؟!

الوقائع والأرقام تتحدث عن نفسها!
تتحدث وزارة الصحة عن أن نسبة المؤمنين في المملكة تتراوح بين 72% ويصل أحياناً إلى 74% من المواطنين، وأن هناك 2.9 مليون مواطن لا يمتلكون أي شكل من التأمينات الصحية!
ولكن الارقام المعلنة عن استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية تؤكد بأن نسبة المؤمنين تتراوح بين 68% إلى 70% من عدد المواطنين، وأن التأمين الحكومي في شقيه يبلغ 85% من المشمولين بالتأمين، مقسمين إلى 49% مؤمن مدني و 36% من التأمين العسكري، وأن القطاع الخاص مجتمعاً يشمل 13% من مجموع المؤمنين، وأن عدد المؤمنين يبلغ 2,5 مليون، وهذا يعني بأن 30% من عدد السكان غير مشمولين بأي شكل من التأمين، تصنفهم الحكومة من المقتدرين وبإمكانهم الانفاق على علاجهم ، بينما الواقع يقول بأن أغلبيتهم لا ينطبق عليها هذا التوصيف، وأن أكثريتهم تجد مشقة كبيرة في توفير سبل العلاج والتداوي.
في محاولة لاخفاء طبيعة المشكلة، تردد الحكومة مصطلحات مختلفة وملتبسة للتعبير عن جهودها في هذا المجال، ومن المفيد هنا أن نحدد بعض المفاهيم في موضوع التأمين:
هل يمكن تحديد أنظمة الـتأمين المعتمدة، ولماذا هذا التشتت!؟
التأمين الصحي هو أحد أنواع التأمين الذي يختص بالتأمين ضد المخاطر الصحية لدى الفرد، ويشمل تكلفة العملية الصحية من تشخيص وعلاج ودعم نفسي وجسدي، كما يتضمن تغطية أضرار الانقطاع عن العمل لفترة معينة أو حصول عجز، وتقوم فلسفة التأمين الصحي على مبدأ تجميع المخاطر عبر تجميع الاموال اللازمة للتعامل مع هذه المخاطر.
بينما مصطلح الرعاية الصحية، يعبر عن حق من حقوق الانسان ويشمل الافراد والسكان، وقد تم تثبيته في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتطالب به منظمة الصحة العالمية. ويمثل هذا المصطلح، مجموع الخدمات والمؤسسات العامة والخاصة التي توفرها الدولة لغايات العناية بصحة مواطنيها، وتشمل المستشفيات والعيادات والصيدليات والمواد البشرية من اطباء وممرضين وفنيين وباحثين، كما يشمل صناعة الأدوية والاجهزة الطبية والابحاث والتعليم الطبي، وتوفير المسكن ومياه الشرب الجيدة والبيئة النظيفة، وتتأثر الرعاية الصحية بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسات الصحية المتبعة لدى مختلف البلدان.
أما الاعفاءات؛ فهي تأمينات تشمل الفئة العمرية للأطفال تحت سن 6 سنوات والاعمار فوق 60 عام، مقابل رسوم رمزية ،وقد أقرت هذه التغطية بهدف إيصال نسبة المؤمنين إلى 80%. وهذه الفئات تغطي تأمينيا بكافة الاجراءات الطبية، وتلتزم وزارة الصحة بتغطيتها خارج مشافي الصحة إن لم تتوفر امكانية علاجها داخل مؤسسات الوزارة، وتوفرها خارجها.

ولاستكمال الصورة، يوجد هناك شكل من التأمينات الخاصة أو ما يسمى بشبكة الأمان، وهو تأمين يغطي (حالات محددة، من غير المشمولين بالتأمين،ولفترات زمنية محددة أو أمراض معينة، مثل تأمين الحوامل خلال فترة الحمل والولادة وحالات السرطان، والهيموفيليا، والتصلب اللويحي والحالات النفسية، والقصور الكلوي، والاسر المفقرة لدخل شهري أقل من 300 دينار وغيرها، كما يغطي الاعيان والنواب اثناء فترة ولايتهم البرلمانية. وهي خدمات تغطى فقط داخل مؤسسات وزارة الصحة.
للتهرب من التزاماتها بالتأمين الصحي الشامل، تتحدث الحكومة عن التغطية الصحية الشاملة، وهو مصطلح مخادع تستهدف من ورائه الحكومة تقديم الاساسيات في التطبيب فقط، وعبر حزم بحد أدنى من الخدمات.
النواقص، ومكامن الخلل:
تقول تقارير مختلفة بأن التأمين الحكومي يعاني من نواقص ومشاكل مختلفة، يأتي في مقدمتها؛ عدم توفر الأدوية بشكل دائم، وعدم شمول التأمين لبنود خاصة وأدوية واحتياجات ضرورية للمرضى، كما يشكوا المعنيون من اكتظاظ المراجعين ونقص الكادر وعدم كفاءته، وتردي حالة البنية التحتية للمرافق الصحية.
وقد أثارت وفاة الشاب عبد الله المشاهرة -بعد معاناة من الإصابه- الرأي العام، الذي ندد بعدم استجابة أي جهة حكومية لمناشداته في تأمين علاجه في أي قطاع، مع العلم بأن الحكومة تمنح أعضاء مجلس النواب اربع اعفاءات شهريا، وقد كشفت الفاجعة حجم النقص والتقصير في هذا الجانب.
يعاني قطاع التأمين من عدم وجود أسس واضحة لآليات تحويل المرضى إلى مستشفى الحسين للسرطان، والمستشفيات الجامعية والخدمات الطبية ومستشفى الامير حمزة، حيث أصبحت التحويلات، وبعد معاناة كبيرة، توجه إلى مستشفى البشير، دون وجود أية معايير تراعي الحالة المرضية أو مكان السكن للشخص طالب الخدمة، أو عدم توفر الخدمة اللازمة أحياناً في هذا المشفى.. أما إعفاءات الديوان، فيتم تجديدها فقط لمن يمتلك اعفاء قديم، مع الزامه بتجديده سنوياً لاغراض استكمال العلاج.
ويزيد من سوء الوضع، أن من بين المستشفيات ال33 التابعة لوزارة الصحة، يتعرض للضغط الكبير عدد قليل من المشافي الواقعة في أماكن الإكتظاظ السكاني العالي، بينما تعاني المستشفيات الطرفية من ندرة أو إنعدام وجود التخصصات الفرعية والدقيقة، وحتى بعض التخصصات العامة، وسط نزف متواصل للكادر الطبي والمهن الطبية المساعدة، نتيجة تدني الراتب وتردي الحوافز وبيئة العمل. ويزيد من قتامة الصورة؛ غياب مزمن لرؤية التخطيط في وزارة الصحة، لتلبية حاجات الوزارة متوسطة وبعيدة المدى في قبول مقيمين، وفي الإبتعاث وتدريب إختصاصيين جدد، في عدد كبير من الإختصاصات التي تعاني من النقص الشديد.
حالة من الارباك والتشتت باتت تعانيها الوزارة بين التزامات التأمين الصحي وتغطية الاعفاءات والتأمينات الخاصة، والتحويلات لغير المؤمنين، حيث تلجأ الحكومة بشكل غير معلن إلى تقليص هذه التحويلات.
تحدثت الحكومة مؤخرا عن وعود حكومية بتوسيع قاعدة المواطنين المشمولين بالتأمين الصحي تديجيا وصولا إلى تأمين لكل مواطن بحلول العام 2023، ولكن يخشى بأن هذه الوعود لا تختلف عن سابقاتها، أو أن إدخالها ضمن ما يسمى بالعناية الصحية الشاملة منقوصة التغطية!
بشكل عام يعاني قطاع التأمين الحكومي من الهدر المالي، وتعدد المرجعيات والأشكال التأمينية، وغياب التنظيم والعدالة. تقر الحكومة بتعقيدات المشهد التأميني بشكل كبير، ولكنها بدلا من الإعتماد على مقدرات وزارة الصحة وتطويرها كادريا وتنمية البنى التحتية، نراها تتوجه إلى فصل إدارة التأمين وجعلها هيئة مستقلة، وهي توجهات خطيرة تنحى إلى الخصخصة، مما سيزيد من أعباء الإنفاق، ويسمح بتهرب الحكومة من واجباتها في القطاع الصحي العام، وضرب مفهوم التأمين الصحي الشامل، في ظل وجود ثغرات ونقاط ضعف في كل من الدستور وقانون الصحة العامة ، فيما يتعلق بهذه المسألة.
هل من الممكن معالجة تشوهات أنظمة التأمين الصحي!؟
المختصون في هذا المجال، يقرون بتعقيدات المشهد، ولكنهم يرون بأن الحلول متوفرة وممكنة، وأن الوضع الصحيح يقوم على التأمين الصحي الشامل، ولكن في التعامل مع الواقع الحالي، فإن المطلوب هو وقف الإزدواجية التأمينية، وإعتماد الرقم الوطني ورقم الضمان الإجتماعي، والملف الإلكتروني.
المطلوب تحقيق أسس المساواة والعدالة، ووقف التجاوزات والتفاوت السائد في مبالغ الإنفاق بين مؤمن وآخر، وبين نظام تأميني وآخر.
تقول الحكومة بأنها تحصل مبلغ 156 مليون دينار سنويا كرسوم تأمينية، بينما تنفق مبلغ 480 مليون دينار، منهم مبلغ 200 مليون دينار تكلفة للتحويلات وشراء خدمات من القطاع الخاص.. حل مؤقت، يراد له أن يصبح منهجا سائدا في سياسات الوزارة !!
ألم يحن الوقت لزيادة موازنة وزارة الصحة لدعم التأمين الحكومي، وتطوير عمل الوزارة!؟
موازنة الصحة تبلغ 650 مليون دينار، وهي تساوي نفس الموازنة لقبل أربع سنوات، رغم أن عدد سكان الأردن قد إزداد بنسبة 33% خلال ست سنوات، ولأسباب مختلفة. وحسب أرقام الوزارة أيضاً؛ فإن عدد الأسرة قد تراجع من 18 سرير لكل عشرة آلاف مواطن، إلى 14 سرير خلال نفس الفترة، وهي أرقام خطيرة جداً تكشف بأن المسار ينحو إلى التراجع بدلا من النمو والتصاعد!!
نطالب بزيادة الموازنة للإنفاق على توسيع وتطوير البنى التحتية في المركز والأطراف، وإحداث تنمية بشرية مُلحة في الكادر من إختصاصيين ومقيمين وفنيين ومهن طبية مساعدة.
التأمين الصحي الشامل هو حق للمواطن، والمطلوب هو توفر الإرادة السياسية ،والفكر الإجتماعي المسؤول والعادل.

بواسطة
د. موسى العزب
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى