لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
مقالات

قراءة في فوز “نمو” في نقابة المهندسين.. لماذا وكيف؟!

لم يكن قد هدأ بعد صدى الارتدادات القوية لانتخابات نقابة المهندسين، حتى انطلقت الحراكات الشعبية، بإعلان مجلس النقباء الإضراب العام ضد مشروع قانون الضريبة وتعديلات نظام الخدمة المدنية، وكأن فوز قائمة «نمو» في نقابة المهندسين قد أسهم في إطلاق شعلة الهبة الشعبية.

كان من الطبيعي لأنصار «نمو» أن يفخروا بانجازهم التاريخي بوصولهم إلى قيادة النقابة، وكسر احتكار وتفرد التيار الديني المحسوب على الاخوان المسلمين، على كل مقدرات النقابة وقرارها لفترة زمنية امتدت لعقدين ونصف دون مزاحمة من أحد، بعد أن تمكن فيها تحالف القوميين واليساريين ومستقلين من تحقيق إنجاز غير مسبوق وتسلم دفة القيادة في أكبر وأهم النقابات المهنية، والتي تمتلك تأثيرا حاسما في المشهد النقابي والوطني، فجاء الفوز ليدلل على أهمية الاعتبارات النقابية والسياسية الحاضرة بقوة في المشهد العام.

خلال أكثر من ربع قرن شكلت النقابة، إحدى قلاع الحركة الاسلامية، وحاملة مجتمعية لتيارهم، ومعيارا لقياس سطوته ونفوذه المجتمعي، ولكنها أيضا وضعت التيار الفائز، بقوة أمام الاستحقاقات النقابية المعقدة والتحديات الوطنية والشعبية التي يعول على النقابة مواجهتها.

لقد جاءت الانتخابات بعد مرورنا بمفاعيل سبع سنوات من رياح «الربيع» العربي، والتي عمقت من حالة الاستقطاب والخلاف بين التيارات السياسية والفكرية في المجتمع وفي النقابات المهنية، وشهدنا فيها على استفراد تشكيلات القائمة البيضاء التي تمثل الاتجاه الديني، على كل مقدرات النقابة وأنشطتها، الامر الذي «البيضاء» في مركز اتهامات بائنة بممارستها لسياسات اقصاء باقي التيارات النقابية عن المشاركة في القرار والنشاط، في حين استحوذت هذه القائمة على كل المناصب والمهام واللجان النقابية وجهازها الاداري وبدا واضحا بأن هذا التيار يسعى لممارسة العملية الانتخابية لمرة واحدة، ليتمكن بعدها من ممارسة ديموقراطية التمترس واحتكار السلطة والموقع والقرار، بذهنية استفرادية تضعف من روح التكامل والتماسك الداخلي والبناء الاجتماعي للنقابة، وبدأ الجميع يتلمس حجم التراجع بالاداء المهني والنقابي، وهكذا فإن صندوق النقابة قد سجل عجزاً بلغ ثلاثة ملايين دينار للعام 2017، بعد أن كان يسجل فوائض هامة خلال العقدين الاخيرين .

عشية الانتخابات ، ظهر بأن الدرس الاساسي الذي استوعبته «القائمة الخضراء» التاريخية في النقابة، بأنه حتى قبل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، علينا الانشداد إلى التعددية والحوار والتنوع وقبول الآخر والابتعاد عن عقلية الصراعات الايديولوجية والاحتراب الداخلي. وقبل الاندفاع نحو هيمنة الاغلبية، فإن جوهر الديموقراطية هو احترام حق الاقلية في الاختلاف والمشاركة.

نجح تيار « الخضراء» في الانفتاح والعمل على تطوير أدواته وخطابه والاسهام المبدع في إفراز قائمة «نمو» لتمثل طيفا واسعا من المهندسين التواقين للتغيير، وفرض التداول وكسر الاحتكار.

وبالرغم من بروز علامات تمنُّع عند البعض، إلا أن القائمة نجحت في التقاط حاجات المرحلة واستطاعت الخروج من حلقتها الضيقة وشكلت توليفة حيوية من الناشطين والحزبيين والمستقلين الديموقراطيين.. تحالف جديد أكثر اتساعاً من صيغة «الخضراء»، وأكثر مرونة تجاه مهنيين لم يعتادوا الانخراط المباشر بالصراع السياسي، ويتوقون إلى التغيير النقابي المهني. في حين بقيت القائمة البيضاء ورغم تغيير اسمها إلى «إنجاز»، تراوح في مواقع الايديولوجيا والسجال الهوياتي التحزبي، فقد استطاعت «نمو» تجاوز معارك «التحزيب» الفئوي، وتقديم مقاربة صائبة حول مفهومي التسييس والمهننة، تبتعد فيهما عن مفهوم المهننة الذي تتمترس خلفه الحكومة منذ عقدين على الأقل،  وتعمل من خلاله على تبرير تدخلها في النقابات، في حين تحرم النقابيين من حق المطالبة بحقوقهم ،وتؤكد على اعفاء نفسها من واجبها تجاه مصالح النقابيين وحقوقهم، وإلقاء المسؤولية في ذلك على عاتق النقابات وصناديقها المتعثرة، وتحويل النقابات إلى حالة من الجمعيات الخيرية القاصرة نقابيا والمشلولة وطنيا، وقد تواطأ التيار الديني في بعض النقابات مع هذا الفهم، في حين ابقى على مفهوم التسييس كأداة «تمكين» ذرائعية، تسمح له بوضع النقابة في خدمة أغراض «الحزب» السياسية التعبوية الخاصة، وتحولها إلى مجال سلطة وهيمنة على مقدراتها المادية الهامة، وخيارات تحالفاتها الخارجية.

ccbf1c04b30416c6fa1ba34871f5aa3e 1

«نمو» أعادت تعريف العلاقة بين السياسي والنقابي، باندفاع واع للناشط الحزبي لوضع خبراته وطاقته في خدمة المهام النقابية المهنية في إطار الهدف العام، وترسيم الاطار السياسي، ليس لخدمة الحزبية أو الفئوية، وإنما للانفتاح على الواجب الوطني في تحصيل حقوق النقابي المطلبية في عناوين البطالة والتأمينات الصحية، ومناهضة الخصخصة، والاسهام في عملية التغيير الجماهيري الديموقراطي،. فأقامت مستويات مختلفة من التحالفات السياسية والنقابية الشفافة بين الأطراف صاحبة المصلحة في التغيير، والطامحة بقوة إلى الفوز.

 جاء اختراق «نمو» صريحا في انتخابات المجلس، بينما احتفظت القائمة البيضاء بأربعة مقاعد بالتزكية لغياب عدد كاف من المنافسين نتيجة تعثر «نمو» و بقايا الخضراء في إيجاد ارضية مشتركة في استحقاقات الانتخابات الاولية في الشعب، ومن الهام الاشارة هنا بأن تيار البيضاء لم يخرج عن مجال صناعة القرار في النقابة، حيث تحوز أغلبية من التيار على حوالي 80% من هيئة النقابة المركزية كانت قد تحققت عبر انتخابات سابقة، وحقيقة الامر، فإن «نمو» لن تستطيع تحقيق رؤيتها وبرنامجها النقابي، دون ترسيم علاقة خاصة وتوافقات جوهرية بين الكتلتين لتأمين حسن سير شؤون النقابة.

باستثناء بعض ردود الفعل المستهجنة التي صدرت عن قائمة «إنجاز « والتيار الديني، واتهامات بأن «نمو» قد جاءها دعم مباشر من «الأجهزة» من خلال تدخلها المباشر في النتائج، فقد ارتفعت أصوات نشاز تنضح كراهية وتكفيرا بحق الاخر المنافس، إلا أن التيار الغالب لدى القائمين ومؤازريهما قد تقبل بروح رياضية نتائج صندوق الاقتراع وعزز من ذلك مبادرة نقيب المهندسين الجديد احمد سمارة الزعبي، بزيارتة كل النقباء السابقين لطلب النصح والمشورة، تم اعلان المجلس الجديد حرصه على تأسيس نوع جديد من الشراكة والتوافق، انعكس بسرعة على توزيع المهام والمناصب النقابية داخل المجلس.

شكلت نتائج الانتخابات في نقابة المهندسين تجربة ديمقراطية واعدة قدمت دروسا جوهرية ورسمت اسلوبا للعمل يمكن البناء عليه في بقية النقابات المهنية ،وتجربة في تكريس نموذجا منسجما في تنظيم العلاقة بين الممارسة النقابية والوطنية فرضه جمهور الناخبين، رأينا انعكاساته وإرهاصاته على مبادرة مجلس النقباء ودوره في استنهاض حراك شعبي مطلبي واسع، ومن الواضح بأنه كان لنتائج فوز «نمو» مؤخرا حافزا ومحركا لعودة الروح إلى مجمع النقابات المهنية. نرجو أن تتطور مثل هذه المبادرات الواعدة، وأن تنجح النقابة بالتصدي بكفاءة لتحدياتها النقابية الداخلية ومهامها الوطنية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى