لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
مقالات

ما بعد كورونا

جائحة كورونا التي تعصف بدول كوكبنا، تمثل نموذجاً لجائحات قد تتكرر في المستقبل، فبعيداً عن نظرية الحرب البيولوجية والتخليق أو التحوير المصنعي للميكروبات بأنواعها، هناك تحور مستمر في كل كائن حي معقد أو جرثومي بسيط التركيب ويحمل مادة وراثية، وهذا التحور يمكن أن يحدث من خلال طفرات تلقائية
(de novo) أو متوارثة (inherited).


الغالبية الساحقة من الطفرات تحدث ولا يترتب عليها تغيير في السمات أو الوظائف العضوية، وتلعب العوامل الخارجية أو البيئية المحيطة دوراً أساسياً في تحفيز حدوثها، كاستخدام المضادات الحيوية الذي يؤدي إلى تشكل سلالات جديدة من البكتيريا المقاومة لهذه المضادات، والفيروسات التي تُغَير في سمات غلافها للتغلب على أداء جهاز المناعة في الجسم المُضيف (Host)، والمواد المشعة التي تتسبب بحدوث طفرات جينية تزيد فرصة تشكل الأورام السرطانية في الإنسان.
لكن، بغض النظر عن كون جائحة «كوفيد 19» ناتجة عن تحور تلقائي في أحد سلالات الفيروسات التاجية، أو أنها نتاج «حرب بيولوجية»، فإن الأهم يكمن في الواقع الجديد الذي فرضته ووضعها للأنظمة الصحية في كافة دول العالم أمام سؤال كبير يتعلق بنجاعة هذه الأنظمة المختلفة والمطبقة في أكثر من بلدٍ ومكان، وماهية الأولويات التي على البشرية صرف النظر لها وإعادة ترتيبها من جديد، وما هي مكانة الإنسان وصحته في سُلَم هذه الأولويات، وأهمية ضمان العدالة في تأمين الرعاية الصحية لكل إنسان، بغض النظر عن قدراته المادية ومكانته ودوره في المجتمع؟
لقد فرضت جائحة «كوفيد 19» حالة «تساوي» موضوعية بين البشر، فلم تفرق بين مقتدر وفقير، ولا بين رئيس دولة ومواطن بسيط، كما لم تفرق بين مدني وعسكري، وبين جنس أصفر وأبيض وأسود، ولم تفرق بين الشمال والجنوب، أوالشرق والغرب.
ما بعد كورونا يجب أن يلحظ كل ذلك، ويعيد ترتيب أولويات الدول، ليس فقط فيما يتعلق بأنظمتها الصحية وإعطائها الأولوية برفع مخصصاتها وموازناتها، ومراجعة ومعالجة أوجه القصور في بناها التحتية، لكن المطلوب أيضاً، إعادة النظر بمكانة وأهمية الإنسان ككائن وكركن أساسي لاستمرار جنس البشر.
كلنا يشاهد الجدل المستمر حول استراتيجية مواجهة كورونا، والفرق بين نموذج الصين من جهة، والنموذجين البريطاني والأمريكي من جهة أخرى، وجوهر الخلاف في استراتيجية المواجهة ينطلق من رؤى فلسفية وفكرية وقيمية مختلفة، تحدد إن كانت الأولوية لقيمة الإنسان وكيانيته وصحته، أم أن الأولوية للاقتصاد واستمرار دورته؟ هذا هو جوهر الاختلاف في بناء وتطبيق كل واحدة من هذه الاستراتيجيات.
لا شك أن هناك ترابطاً جدلياً بين «الإنسان» و»الاقتصاد»، ولا وجود واستمرار لأحدهما بدون الآخر، ومن وحي محنة الجائحة التي تعصف بكوكبنا، فإشكالية العلاقة بينهما تتمثل في الإجابة على سؤال، أي طرف يجب أن يوَظَف في خدمة الآخر، الاقتصاد في خدمة الإنسان أم الإنسان في خدمة الإقتصاد، وبدون تردد نقول، أن النموذج الاقتصادي يجب أن يوظف في خدمة الانسان، كل إنسان، دون تمييز أوامتيازات لصالح من ينتمون لنخبة أو طبقة أو مِلة على حساب الآخرين.
يترتب على ذلك إعادة النظر في الأولويات التي فرضها النظام الاقتصادي الرأسمالي، وهنا تتعدد الاجتهادات والخيارات، وحتماً لن تحسمها شهور أو سنوات، وقد لا تُحسم أبداً، لكن المؤكد أن هناك أولويات كشف تحدي الميدان في كافة الدول، غنيها وفقيرها، أنها لم تكن تحظى بما تحتاج من اهتمام وموازنات، كقطاعي الصحة والتعليم، اللذان يستحقان أن يكونا على رأس هذه الأولويات، لأنهما ضمانة استمرار الدول والبشرية التي تقف أمام تحدي إعلاء قيم التعاون والتضامن والأنسنة التي غيبتها الرأسمالية الليبرالية المتوحشة والتي تعاملت مع الإنسان كسلعة وتتعامل مع احتياجاته كسلة من السلع تشكل همها الأول والأخير.
ختاماً، فالحصيلة الأولية لجائحة «كوفيد 19» أنها بينت فروقات قدرة الدول على الاحتواء والتعافي من الوباء، وأساس ذلك يكمن في دور الدولة وقوة القطاع الصحي العام في تقديم الرعاية الصحية للمواطنين، والمؤشرات الأساسية التي فحصت قوة هذا القطاع نجدها في الاستجابة للاحتياجات المحددة التالية:
1- القدرة على إجراء الفحص لأكبر عدد ممكن من الحالات المشتبهة.
2- القدرة على تأمين متطلبات العزل والحجر مع ضمان احتياجات الناس الأساسية خلال فترة الوباء.
3- القدرة على تطبيق التباعد الاجتماعي والالتزام الواعي من المواطنين بالتعليمات المقيدة للحركة، حيث الثقافة الصحية تشكل جزءاً من الوعي الاجتماعي، ما ينعكس أيضاً في تطبيق وسائل الوقاية والنظافة الشخصية والعامة بشكل فعال.
4- الاستعداد (الاستراتيجي) المبكر بتوفير بنية تحتية صحية، سواء رعاية صحية أولية ومراكز صحية شاملة، أو رعاية صحية ثانوية ومشافي، وكوادر بشرية صحية في مختلف التخصصات، واستباق ذلك بمحاكاة سيناريوهات وبائية وتحديات صحية مختلفة.
5- وجود هيئات حكومية تخصصية (مراكز الرصد الوبائي) ترصد كافة أنواع الأوبئة، وتكون قادرة على قراءة أي مؤشرات وبائية مهما كان نوعها بسرعة، والاستجابة دون تباطوء لاتخاذ الاجراءات المناسبة وفي الوقت المناسب.
هذه الجائحة كما غيرها، سنستطيع تجاوزها والتغلب على نتائجها والتعلم من تجربتها كما غيرها، لكن الأهم يكمن في أن تكون نقطة انطلاق البشرية وإسراع الخطى نحو عالمٍ أكثرَ عدالةً وتضامناً ومساواةً وإنسانية، وأن لا تُمهد الطريق أمام هيمنة وتسلط إمبريالي ليبرالي متوحش بأدوات جديدة.

بواسطة
د.عصام الخواجا نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى