لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
مقالات

«مواجهة هواجس الهوية.. وتحديات الحروب المفتعلة»

أحدث إعادة من اعتدوا على مكتب رئيس جامعة آل البيت، إلى أعمالهم دون محاكمة أو حتى مساءلة جادة، صدمة كبيرة لدى الوعي الجمعي، ودق إسفينا جديدا في جدار المناعة الوطنية ومكانة القانون والعدالة.
وقد وقعت هذه الحادثة منذ وقت قصير، عندما أقدم عاملون في الجامعة على إجبار رئيسها على مغادرة مكتبه والحرم الجامعي في مشهد مذل هز مشاعر أغلبية الاردنيين، وقد سبق ذلك وقوع حوادث مؤسفة كان ميدانها مدرسة الفيصلية في مادبا عندما قام الطلاب باعمال شغب وتحطيم مقدرات مدرستهم وسط سلبية وتواطؤ من المعلمين.ولحق ذلك حادثة تمثلت بقيام عدد من موظفي التربية في الاغوار الشمالية بالإساءة الجارحة لمديرة التربية هناك وحاولوا طردها من مقرها.
وفي الأثناء كان محافظ العاصمة يتجاوز صلاحياته ويتعدى على القانون، ويمنع اقامة فعالية وطنية في ذكرى استشهاد القائد الفلسطيني أبو علي مصطفى، ثم منع تنظيم حفلي تأبين للرئيس جمال عبد الناصر، والكاتب ناهض حتر.
وشهدنا مؤخرا جريمة اعتداء وحشي ارتكبه اشخاص منفلتون على راكبي سيارة تجاوزت فاردة زفاف، أدى إلى وفاة طفل عمره 3 سنوات قتل في حضن والدته، كما نشهد باستمرار حدوث عشرات الحوادث المماثلة في المستشفيات العامة والمؤسسات التعليمية، تهز الضمير المجتمعي، وتشغل بال الرأي العام الأردني.
في كل هذه الحالات كان الإفلات من المساءلة يشكل تعديا فاضحاً على المجتمع، وامتهانا للعدالة والقانون، يقود إلى اشاعة التوثير ويعمق من الاحتقان العام، ويعرض بنية المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى التفسخ والانقسام، ويضع مستقبل الأجيال القادمة في مهب الريح.
تشوه جديد يصيب القيم والثقافة المجتمعية، يعززه تفشي مظاهر المحسوبية والواسطة والمحاصصة والتنفيعات، والتنكر لمعايير الكفاءة، وشيوع التوازنات غير المبدئية وانعكاس كل ذلك على سوء استثمار الموارد الوطنية، وانحدار السلوك العام في البنى التحتية والفوقية، وتسيد قيم وعادات البيرقراط الرث والكمبرادور الطفيلي في دولة تابعة منقوصة السيادة.
يرى البعض بأن هذه الظواهر الكارثية المتسارعة التي تجتاح مجتمعاتنا ليست مرتبطة بالازمة المالية الراهنة فحسب، بل يقع على عاتقنا رصد ابعادها ايضا في مستوياتها الاجتماعية، وحالة الانسداد السياسي، والارتفاع غير المسبوق بمعدلات البطالة وتراجع النمو، وطغيان قيم السوق طيلة العقود الماضية، وفرض آليات تسليع المجتمع على كل القطاعات الاجتماعية والخدمية من تعليم وصحة، الامر الذي أدى إلى تشويه البنية الطبقية للمجتمع، وتكريس درجات مجتمعية متفاوتة ومتناحرة داخل النسيج الواحد.
بعد توقيع معاهدة وادي عربة وإخراج الاردن من مضمار الصراع العربي – الصهيوني، فرض على الشباب الاردني الانكفاء لهوية اقليمية بعيدا عن أولويات الانتماء القومي. ومع إلغاء خدمة العلم، خسر الأردن مدرسة “وطنية” وتربوية عقائدية هامة، وأداة تحفيز للانتماء الوطني التوحيدي تسمو على ضحالة الهويات الفرعية، فيما عززت السلطة من حالة الاغتراب والضياع، ومحاربة التشكيلات الحزبية، وترويج للنهج النيوليبرالي على المجتمع والاقتصاد، الأمر أنعش الانتهازية السياسية من خلال عدد من القوانين القاصرة، فنمت تعبيرات البلطجة، وتشكيل مراكز قوى من مجاميع الاتباع، وأدوات ضغط مارقة تُسخر لانتزاع مكاسب فئوية وشخصية منحرفة.
مجموعة من العوامل تضافرت لتؤدي إلى تراجع الهوية الوطنية الجامعة لصالح هويات متعددة ومتنافرة، وسط شعور عميق بغياب العدالة الاجتماعية، أدت إلى ضرب هيبة القضاء، وتراجع مكانة ومفهوم السلطة التي باتت تفتقر إلى معايير النزاهة وقم الديموقراطية، أدت إلى تدني منسوب الثقة بين مؤسسات الدولة وحركة الشارع.
يتبع النظام الأردني اقتصاديا وسياسيا للمركز الرأسمالي العالمي الذي تتحكم في مفاصله الدوائر الغربية، والإمبريالية الأمريكية على وجه الخصوص، حيث تنتكس الآن الديموقراطية بشكلها الليبرالي، وتصعد الشعبوية واليمين المتطرف، في أمريكا وأوروبا على السواء، الأمر الذي يعكس عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بالنظام الرأسمالي في المركز، ومحاولاته المحمومة لتصدير أزماته إلى الأطراف.
النظام الرأسمالي الذي درج على تجاوز أزماته المتلاحقة عبر افتعال الحروب المريعة، يجد نفسه الآن مربكاً وعاجزاً عن خوض حروبه بنفسه، فيلجأ إلى تأجيج الأزمات الإقليمية ومحاولة تهشيم الدول الوطنية، وإدارة الحروب بالوكالة من خلال الضغوط الاقتصادية وإغراق الدول في الديون، وتغذية النزاعات البينية من خلال تأجيج الكراهية والعداء بين مكونات الدولة الواحدة، وبينها وبين جيرانها، وتعميم الاقتتال بين الهويات المفتعلة، وتسليح الحروب الكاذبة، وسط تأليب الهويات الضيقة ورعاية الاصولية، فطفى على السطح حضور اليمين الرجعي الذي أعاد تعريف نفسه كإطار يسعى إلى حماية الهوية الجزئية المرتبطة بالمذهب أو الطائفة او العرق، فتم حرف النضال الاجتماعي عن غاياته وضروراته.
عوامل متعددة دفعت المنطقة إلى العنف والتطرف، وأصبحت المجتمعات لا ترى نفسها إلا من خلال تشكيلات قبلية ضيقة تصطرع مع قبائل ومذاهب وطوائف أخرى على حساب الصراع الحقيقي والحيوي مع العدو الصهيوي وحلفائه، أو الالتفات لتحديات التنمية.
صحيح بأننا لا نمتلك رؤية واحدة حول تشخيص المرحلة ورسم معالم الطريق للخروج من الأزمة، ولكن البداية يجب أن تكون باجتثاث الفساد باشكاله وتكريس قيم العدالة القانونية والاجتماعية، مع التأكيد على حق المواطنين جميعاً في الحصول على التعليم والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية اللائقة.
ندرك بأن الإنسان بطبعه وصيروته متعدد الهويات، ولكن على تلك الهويات أن تؤطر في صيغ واعية ومنسجمة، تضمن توليف الهويات الفرعية، في هويات وطنية وقومية “كبيرة”، في إطار نهوض ثقافي اجتماعي، يعظم من قيم العمل والانتاج والنضال الاجتماعي، من خلال تحويل مفهوم الهوية من حالة بدائية وإختيار مجزوء، إلى إدراك واعٍ للذات وللمجموع، وهادف إلى تحسين الحياة، ورفعة قيم العمل المشترك في إطار ديمقراطي تشاركي، وتمكين الناس من ممارسة رقابة حقيقية على مجتمعاتهم ضمن أدوات مؤسسية حقيقية سيادية، في وطن حر سيادي.
على بعض اليسار أن يغادر بشكل كامل، سجالات المظالم المفتعلة في قضايا الهوية والحقوق المنقوصة، والتعصب “لنقاء” النسيج الوطني، إلى مقارعة رأس المال والإمبريالية وربيبتها الصهيونية.
مفتاح مواجهة التحدي يبدأ من تقوية الجبهة الداخلية والوحدة المجتمعية من خلال تعظيم الفكر الحر، والموقف العلمي النقدي لجميع الأمور السياسية والتشريعية والمنظومة الاجتماعية والثقافية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى